فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعرًا بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين، وبأن المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا القول تنفيسًا عنه من كدر الأسى على قومه، وإعذارًا لهم بالنذارة، وإشعارًا لهم بأن الحق في جانبهم مضاع، وأن الأجدر بالرسول صلى الله عليه وسلم متاركتهم وأن يفوّض الحكم في خلافهم إلى الله.
وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوّض أمره إلى الله هو الواثق بحقّيه دينه المطمئن بأن التحكيم يُظهر حقه وباطل خصمه.
وابتدىء خطابُ الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه بالنداء لأن المقام مقام توجيه وتحاكم.
وإجراء الوصفين على اسم الجلالة لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من مُحقّ ومُبطل.
وَالفاطر: الخالق، وفاطر السماوات والأرض فاطر لما تحتوي عليه.
ووصف {فاطِرَ السموات والأرض} مشعر بصفة القدرة، وتقديمُه قبل وصف العِلم لأن شعور الناس بقدرته سابق على شعورهم بعلمه، ولأن القدرة أشدّ مناسبة لطلب الحكم لأن الحكم إلزام وقهر فهو من آثار القدرة مباشرةً.
والغيب: ما خفي وغاب عن علم الناس، والشهادة: ما يَعلمه الناس مما يدخل تحت الإِحساس الذي هو أصل العلوم.
والعدول عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر في قوله: {بَيْنَ عبادِكَ} دون أن يقول: بيننا، لما في {عِبَادِك} من العموم لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه والحكمَ بين كل مختلِفين لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة.
وجملة {أنت تحكم بين عبادك} خبر مستعمل في الدعاء.
والمعنى: احكم بيننا.
وفي تلقين هذا الدعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه الفاعل الحق.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفِعْلي في قوله: {أنت تحكم} لإِفادة الاختصاص، أي أنت لا غيرك.
وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن غير الله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكونَ الرد عليه بمفاد القصر، تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم الإِنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج، بحيث إن من يتطلب حاكمًا فيهم لا يجد حاكمًا فيهم إلا الله تعالى.
وهذا أيضًا يؤمىء إلى العذر للرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه بأقصى ما كُلّف به لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وُسعه فيما وجب عليه، فلما لَقَّنه ربه أن يقوله كان ذلك في معنى: أنك أبلغتَ وأديتَ الرسالة فلم يبق إلا ما يدخل تحت قدرة الله تعالى التي لا يعجزها الألدَّاء أمثال قومك، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وعيد للمعاندين.
والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف، ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يُعجل لهم العذاب في الدنيا.
والإِتيان بفعل الكون صلة ل {مَا} الموصولة ليدُل على تحقق الاختلاف، وكونُ خبر كان مضارعًا تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم.
وتقديم {فِيهِ} على {يَخْتلفون} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلَف فيه.
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} عطف على جملة {قل اللهم فاطر السموات والأرض} [الزمر: 46] الخ لأنها تشير إلى أن الحق في جانب النبي وهو الذي دعا ربه للمحاكمة، وأن الحكم سيكون على المشركين، فأعقب ذلك بتهويل ما سيكون به الحكم بأنه لو وجَد المشركون فديةً منه بالغةً ما بلغت لافتدوا بها.
{وما في الأرض} يشمل كل عزيز عليهم من أهليهم وأموالهم بل وأنفسهم فهو أهون من سوء العذاب يوم القيامة.
والمعنى: لو أن ذلك ملك لهم يوم القيامة لافتدوا به يومئذٍ.
ووجه التهويل في ذلك هو ما يستلزمه مِلك هذه الأشياء من الشح بها في متعارف النفوس، فالكلام تمثيل لحالهم في شدة الدرك والشقاء بحال من لو كان له ما ذكر لبذله فدية من ذلك العذاب، وتقدم نظير هذا في سورة العقود.
وتضمن حرف الشرط أن كون ما في الأرض لهم منتف، فأفاد أن لا فِداء لهم من سوء العذاب وهو تأييس لهم.
و{مِن} في قوله: {مِن سُوء العذاب} بمعنى لام التعليل، أي لافتدوا به لأجل العذاب السيّىء الذي شاهدوه.
ويجوز أن تكون للبدل، أي بدلًا عن {سُوءِ العذاب}.
وعطف على هذا التأييس تهويل آخر في عظم ما ينالهم من العذاب وهو ما في الموصول من قوله: {ما لم يكونوا يحتسِبُون} من الإِيهام الذي تذهب فيه نفس السامع إلى كل تصوير من الشدة.
ويجوز جعل الواو للحال، أي لافتدوا به في حال ظهور ما لم يكونوا يحتسبون.
و{مِنَ الله} متعلق ب {بدا}.
و{من} ابتدائية، أي ظهر لهم مما أعد الله لهم الذي لم يكونوا يظنونه.
والاحتساب: مبالغة في الحِساب بمعنى الظن مثل: اقترب بمعنى قرب.
والمعنى: ما لم يكونوا يظنونه وذلك كناية عن كونه مُتجاوزًا أقصَى ما يتخيله المتخيل حين يسمع أوصافه، فلا التفات في هذه الكناية إلى كونهم كانوا مكذبين بالبعث فلم يكُنْ يخطر ببالهم، ونظير هذا في الوعد بالخبر قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17].
و{سَيِئَات} جمع سيئة، وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول {ما كَسَبُوا} أي مكسوباتِهم السيئاتتِ.
وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على الفعلة وإن كان فيما كسبوه ما هو من فاسد الاعتقاد كاعتقاد الشركاء لله وإضمار البغض للرسول والصالحين والأحقادِ والتحاسد فجرى تأنيث الوصف على تغليب السيئات العملية مثل الغصْب والقتل والفواحش تغليبًا لفظيًا لكثرة الاستعمال.
وأوثر فعل {كَسَبُوا} على فعل: عملوا، لِقطع تبرمهم من العذاب بتسجيل أنهم اكتسبوا أسبابه بأنفسهم، كما تقدم آنفًا في قوله: {وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون} [الزمر: 24] دون: تعملون.
والحَوْق: الإِحاطة، أي أحاط بهم فلم ينفلتوا منه، وتقدم الخلاف في اشتقاقه في قوله تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم} في سورة [الأنعام: 10].
وما كانوا به يستهزءون هو عذاب الآخرة، أي يستهزئون بذكره تنزيلًا للعقاب منزلة مُستهَزَء به فيكون الضمير المجرور استعارة مكنية.
ولك أن تجعل الباء للسببية وتجعل متعلق {يستهزوءن} محذوفًا، أي يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذِكره العذاب.
وتقديم {بِهِ} على {يستهزوءن} للاهتمام به وللرعاية على الفاصلة. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبر تدل الناظر على الوحدانية وأن ذلك لا شرك فيه لصنم وهي حالة التوفي، وذلك أن الله تعالى ما توفاه على الكمال فهو الذي يموت، وما توفاه متوفيًا غير مكمل فهو الذي يكون في النوم، قال ابن زيد: النوم وفاة، والموت وفاة. وكثرت فرقة في هذه الآية وهذا المعنى. ففرقت بين النفس والروح، وفرق قوم أيضًا بين نفس التمييز ونفس التخيل، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن. وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ويكفيك أن في هذه الآية {يتوفى الأنفس} وفي الحديث الصحيح: «إن الله قبض أرواحنا حين شاء وردها علينا حين شاء» في حديث بلال في الوادي، فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس في النوم وقد قال الله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] فظاهر أن التفصيل والخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض القول في هذا ونحوه أئمة، ذكره الثعلبي وغيره عن ابن عباس أنه قال: في ابن آدم نفس بها العقل والتمييز، وفيه روح به النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. والأجل المسمى في هذه الآية: هو عمر كل إنسان.
وقرأ جمهور القراء {قَضى عليها} بفتح القاف على بناء الفعل للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي {قُضي} بضم القاف على بنائه للمفعول، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى. ثم أحال أهل الفكرة على النظر في هذا ونحوه فأنه من البين أن هذه القدرة لا يملكها ويصرفها إلا الواحد الصمد، لا رب غيره.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} {أم} هنا مقطوعة مما قبلها، وهي مقدرة بالألف وبل، وهذا تقرير وتوبيخ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على الأمر وعلى أنهم يرضون بهذا مع كون الأصنام بصورة كذا وكذا من عدم الملك والعقل. والواو في قوله: {أو لو} واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام، ومتى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت التقرير.
ثم أمره بأن يخبر بأن جميع الشفاعة إنما هو لله تعالى. و: {جميعًا} نصب على الحال، والمعنى أن الله تعالى يشفع ثم لا يشفع أحد قبل شفاعته إلا بإذنه، فمن حيث شفاعة غيره موقوفة على إذنه بالشفاعة كلها له ومن عنده.
وقوله تعالى: {وإذا ذكر الله وحده} الآية، قال مجاهد وغيره: نزلت في قراءة النبي عليه السلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته، فقال: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى إنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى} فاستبشر الكفار بذلك وسروا، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان، أنفوا واستكبروا و{اشمأزت} نفوسهم، ومعناه تقبضت كبرًا أو أنفة وكراهية ونفورًا، ومنه قول عمرو بن كلثوم: الوافر:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ** وولته عشوزنة زبونا

و: {الذين من دونه} يريد الذين يعبدون من دونه، وجاءت العبارة في هذه الآية عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل، ونسب إليها الضر والنفع والألوهية، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل. و: {وحده} منصوب عند سيبويه على المصدر، وعند الفراء على الحال.
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} أمر الله تعالى نبيه بالدعاء ورد الحكم إلى عدله، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة، و{اللهم} عند سيبويه منادى، وكذلك عند الكوفيين، إلا أنه خالفهم في هذه الميم المشددة. فقال سيبويه: هي عوض من حرف النداء المحذوف إيجازًا، وهي دلالة على أن ثم ما حذف. وقال الكوفيون: بل هو فعل اتصل بالمكتوبة وهو: أم، ثم حذفت الهمزة تخفيفًا، فكأن معنى {اللهم} بالله أم بفضلك ورحمتك.
و: {فاطر} منادى مضاف، أي {فاطر السماوات}. و{الغيب} ما غاب عن البشر. و{الشهادة} ما شاهدوه: ثم أخبر تعالى عن سوء حال الكفرة يوم القيامة، وأن ما ينزل بهم لو قدروا على الافتداء منه بضعف الدنيا بأسرها لفعلوا.
وقوله: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة متنوعة حسب ضلالتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه، فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة وقصرت به حالاتهم ظهر لكل واحد ما كان يظن. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء من هذه الآية. وقال عكرمة بن عمار جزع ابن المنكدر عند الموت فقيل له ما هذا؟ فقال أخاف هذه الآية {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.
{وحاق} معناه: نزل وثبت ولزم.
وقوله: {ما كانوا} هو على حذف مضاف تقديره: {وحاق بهم} جزاء {ما كانوا به يستهزئون}. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} اشمأز، قال أبو زيد: زعر.
قال غيره: تقبض كراهة ونفورًا.
قال الشاعر:
إذا عض الثقات بها اشمأزت ** وولته عشوزية زبونا

لما كان عليه السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهم إلى ما أنزل الله تعالى عليه، سلاه تعالى عن ذلك، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن، مصحوبًا بالحق، وهو دين الإسلام، للناس: أي لأجلهم، إذ فيه تكاليفهم.
{فمن اهتدى} فثواب هدايته إنما هو له، {ومن ضل} فعقاب ضلاله إنما هو عليه، {وما أنت عليهم بوكيل} أي فتجبرهم على الإيمان.